الوشم الاحمر




المقدمة
ماذا لو راودك المجهول عن نفسك و أجبرَك على البحث عنه.. هل ستخوض المعركة أم تفرّ هاربًا موليًا الأدبار، مع العلم أنه ليس لديك الحق فى الإختيار.
هذا ما حدث مع أولادِ العم، أحفاد سالم المعداوى.. تُرى ماذا سيفعلون و إلى أين سيقودهم ذاك الدخيل المجهول؟!!
الجزء الأول:
فى مساء مكفهر اجتمع الأبناء الثلاثة فى قصر المعداوى ، ذلك القصر المهيب ليس بعظمته أو لأنه مزدان بأحدث اللوحات الجميلة بل لأنه قصر يبدو عليه كل أمارات القِدم فقد تهالكت بعض جدرانه و تشققت أسقفه، و نوافذه تلك قديمة الطراز ، السلم الخشبى المؤدى إلى الطابق الثانى و قد تآكلت بعض درجاته، و تلك الأُطر القديمة للوحات زيتية قد اختفت بعض معالمها و الاضاءة الخافتة لنجف قديم فسدت بعض مناراته ، فضلا عن الحديقة الجرداء تقف أشجارها فى شموخ لكنها غصون بلا أوراق .. كان منظرها مخيفًا بحق .
كيف كان يعيش ذاك العجوز فى هذا المكان المقبض، بل و العجيب فى الأمر أنه كان يمتلك من الأموال ثروة هائلة، لمَ لمْ يعِر منزله اهتمامًا و لو بسيطًا، أكان سالم المعداوى رجلا بخيلا؟!! أم أنه لم يجد داعٍ لذلك؟! ربما .
التفّ أبناء المعداوى حول طاولة خشبية شاخت عظامها ينتظرون المحامى: الابن الأكبر حامد و بجانبه زوجته نسرين و ابنه عاصم و الابن الأوسط راجى و الذى توفيت زوجته قبل عامين و معه ابنه شادى و الابنة الصغرى فاطمة و معها زوجها أحمد و ابنها رابح .
كانت الأجواء باردة قاسية تلائم جفاء المكان فالإخوة قد بات بينهم فتور وصل حد الجحود توارثه أبناؤهم، و لمَ لا و هم لا يرون بعضهم حتى لفترات قد تصل إلى عقود منشغلين بأعمالهم و حياتهم الخاصة كما يسمُونها و إن اضطرهم الأمر يجلس كل منهم على مضض كما يحدث فى تلك اللحظة لاستماع الوصية و التى كانت تثير قلقهم على نحو ما . فإن كانوا هم الورثة الشرعيين، فما الحاجة إلى وصية؟
وصل المحامى و بعد التحية، سأله حامد:
– أستاذ طارق عايزين نفهم،ايه اللى يخلى أبونا يكتب وصية و ليه طلبت إن ولادنا يكونوا حاضرين؟
– على مهلك يا أستاذ حامد حالا هتفهم كل حاجة ، عامة ده كان طلب المرحوم إن الأحفاد لازم يشهدوا فتح الوصية.
تطرق المحامى إلى صلب الموضوع و شرع فى فضّ الوصية و قراءة ما بها:
” إن فتحتم تلك الوصية فبالتأكيد سأكون قد رحلت عن عالمكم الدنىء هذا ،لكنى سأكون قد تركت خلفى كنزًا عظيمًا لن يرثه أبنائى بل أوصى به لأحفادى. و لكن..إن أرادوا الحصول عليه فعليهم اتباع وصيتى و هى أن يأتوا ليعيشوا سويا بمفردهم بقصرى مدة ثلاثة أيام و أربعة ليال على ألا يخرجوا منه و لا يأتيهم زائر كائنا من كان خلال تلك المدة و من يعرض عن وصيتى يُحرَم من نصيبه و يُوزَّع بالتساوى على البقية،و فى حالة رفض الثلاثة تَروح الثروة إلى الجمعيات الخيرية..
انطلقت الهمهمات و الاحتجاجات بعد سماعهم تلك الوصية ” لا ده مستحيل، ازاى يعنى ثروة بمليارات تروح لـ ايد شباب مستهتر .. ده كلام مش معقول.. ايوا عندك حق .. و أنا أقعد هنا فى المكان ده 3 أيام و مع دول..ايه دول دى ياض انت ما تحترم نفسك…. “
حينذاك تدخل المحامى ليوقف تلك المهزلة قائلا :
– و انتوا متضايقين ليه الفلوس كده كده رايحة لعيالكوا سواء كانت منكوا أو من جدهم و أنتوا يا شباب ايه مشكلتكم تقعدوا هنا كام يوم معلش اعصروا على نفسكوا لمونة و استحملوا.. ممكن أكمل الوصية بقا “
أشار له راجى على مضض فتابع المحامى :
و هاك تحذير أخير إلى أحفادى الثلاثة :
” أنتم لا تعلمون أن هناك دخيلا يريد مقاسماتكم فى هذا الإرث العظيم بل و انتزاعه منكم و تحويله إلى رماد و الأنكى من هذا أن ذاك الدخيل لن ترونه بأعينكم فهو يتجسد بمن يريد ، فى الحقيقة قد يكون واحدًا منكم و ربما يكون الجميع ، فقط عليكم اتباع الوشم الأحمر إن أردتم كشف حقيقته و إن استطعتم الخلاص منه ، حينئذ فقط يكون الكنز من حقكم . سلامى لكم جميعا أحفادى. “
المخلص : جدكم سالم المعداوى “
ما إن انتهى المحامى حتى انتصب عاصم قائلا بتبجح :
– طب يا جماعة جدى شكله كان بيخرف.. عوامل السن بقا و كده، أستاذ طارق الوصية دى تبلها و تشرب مايتها.. أنا مش فاضى للكلام ده.. ياللا تشاو .
عاصم شاب مستهتر فى منتصف العقد الثانى تخرج فى كلية الهندسة و لم يشغل باله بأمر العمل حيث لم يجد يوما مشكلة فى الحصول على ما يريد من مال أو غيره يتمتع بفرض سيطرته على شلته الفاسدة ، يمثل له الأدب و الأخلاقيات كلاما تافها يعكس خلاف ما بداخل البشر من دناءة و حقارة . لم يكن كذلك قبل خمس سنوات لكن تبدّل حاله بعد وفاة أخته الكبرى و التى كانت بمثابة أم و أخت و صديقة و ونيسة له و التى نسيها الجميع بعد حزن دام أيام قلائل و ذلك ما لم يستوعبه عاصم فولّد بنفسه كمًا من الكراهية و الحقد لا يستهان به .
استوقفه أبيه صائحا :
– عاصم! اقعد لحد ما نشوف حل فى المشكلة دى .
– مشكلة ايه يا بابا بيقولك وشم أحمر و معرفش مين بيتجسد فى ايه ،جدى شكله كان غاوى أفلام رعب ..بص شوف حوالينا المكان اللى قاعدين فيه .
– أنا كمان يا عمى مش مقتنع بكل اللى بيتقال ده.. الحل الوحيد تطعنوا فى الوصية، أكيد جدى ماكنش فى صحة كويسة لما كتبها واضح إنه أى هرى يعنى .
كان ذلك رابح و هو شاب فى الأربعة و العشرين ربيعا من العمر و هو شاب مجتهد تفوق فى دراسته و اشتغل محاسبا فى أحد البنوك الكبرى رغم معارضة والديه لأنهما كانا يريدانه يدير أعمالهما لكنه رفض و لمَ لا ،فهم دائما ما يرفضون : يرفضون النقاش معه لأن وقتهم الثمين لا يسمح، يرفضون مساعدته فى زواج من أحبّ حتى تزوجت بآخر ، يرفضون و يرفضون و يرفضون .لم يعرف درب السعادة يوما فكان بحوزته الوفير _ أو بالأحرى بحوزة والديه _ لكنه مع ذلك يفتقر إلى الكثير و لا يدركه .
اعترض المحامى هاتفا بلهجة دفاع :
– الحاج سالم عقله كان يوزن بلد و كان فى كامل قواه العقليه لما كتب الوصية دى و سجلها كمان فى الشهر العقارى..
– طب انا رأيى نستنى يا جماعة نسمع و نشوف الموضوع ده هيرسى على ايه؟
كان ذلك شادى و هو شاب فى مقتبل العشرينات و هو شاب مسالم خجول يخشى الناس، يفضل الانطوائية عن الاختلاط بالمجتمع الغير سوىّ كما يزعم، و هو مازال يدرس فى كلية الطب. لم يهتم والديه يوما بالتحدث معه و لم يتساءلا لمَ ليس لديه أصدقاء ،لماذا ينفرون منه أو ربما ينفر هو ! فقد كان التعرف على أناس جدد يمثل له عبئا لا يستطيع تحمله ، فلا ينسجم مع الناس و لا هم ينسجمون مع مثاليته الزائدة كما يسمونها ، إلا من أصدقاء مواقع التواصل الإجتماعي و التى تعد وسيلته الوحيدة للتعامل مع الناس من وراء حجاب فلا يقع فريسة لخجله و يشعر بالبقاء من خلال تفاعلهم معه على منشوراته و صوره فيمنحه ذلك بعض الثقة التى تساعده على الاستمرار فى حياته الخاوية .
رمقه عاصم بازدراء ثم رضخ و جلس بناءا على إصرار والده ، و عاد الجميع يتحاورون و يتناقشون لكن دون جدوى .
فى مساء اليوم التالى ، اجتمع أولاد العم أمام قصر المعدّاوى يحمل كل منهم حقيبة ملابسه و حاجياته لمدة ثلاثة أيام ، ينظرون إلى بعضهم البعض بطرف خفى ، نظرات تملأها برودة و بغض لا يليق بأبناء عائلة واحدة حتى أن الدم بعروقهم بات ثائرا نافرا يتبرأ من ذلك الجحود الذى يعترى نفوسهم .
دلفوا إلى القصر القديم فاجتاحتهم موجة من الكآبة ،هذا كان أقل ما يمكن أن يدخله فى نفسك ذلك القصر البغيض لو مررت بقربه ، الكثير من أحاديث العقل تدور بينهم فقال عاصم فى نفسه :
– واقفين ليه ، مستنيين نقعد و لا نتكلم لا ما هو مش علشان مجبورين نعيش مع بعض هتخنقونى .. غور يا ابنى ع أوضتك منك ليه .
أما رابح يقول لسان حاله :
– هما تلات أيام قضيهم بالطول و لا بالعرض و ماتستناش منهم حاجة ، كل واحد بيفكر فى نفسه و بس.
ابتسم شادى بتهكم يقول فى نفسه :
– متخيلين إنى مش سامع اللى بيدور فى دماغكوا ، عامة ده أحسن ليا و كونى هعيش معاكوا و لا لأ ، سيان مش فارقة كده كده هبقى مرتاح لوحدى و مش هزعج جنابكوا .
صعدوا إلى الطابق الثانى و الذى يبدو أن أحدًا لم يزره منذ أمد بعيد فيكسوه الغبار و تسكن أسقفه العناكب و تجوبه الحشرات من كل حدب و صوب . دلف كل منهم إلى غرفته استعدادا لبدء الليلة الأولى على أمل الإنتهاء منها و بدء يوم جديد لينتهوا منه هو الآخر فكانوا فى عجلة لتنتهى تلك الأربعة ليال فى أسرع وقت ..لكن لا تأتى الرياح بما تشتهى السفن.
ألقى عاصم بحقيبقته أرضا بإهمال ليس بجديد عليه و فتحها ليخرج منها ثوبا يرتديه و قد فعل . تنهد و التقط جهاز التابلت خاصته بعد ذاك ثم اتجه نحو السرير و ارتمى على فراشه و لشدّ ما كانت صدمته..ماا يحدث؟!!
سمع صوت تهشيم الاخشاب من تحته ليجد نفسه ساقطا أرضًا و فى نفس اللحظة ترتعش منارات نجفة غرفته محدثة أزيزًا مرعبًا حتى انطفأت و حل الظلام فانتفض واقفا يبحث عن مصدر إضاءة فأمسك بلوحه الالكترونى ” التابلت ” ثانية ليفتح كشافه لكنه دهشته كانت أكبر..
لقد انتهى شحنه ” ازاى ده، ده كان مشحون على آخره”
فلم يجد مجالا من فتح نافذة الغرفة حتى يدخل ضوء القمر و قد كان بدرا فى تمامه .
فى تلك الأثناء كان شادى فى غرفته و قد عزم على ترتيب ملابسه فى الدولاب فقام فى البداية برفع الأغطية البيضاء عن التسريحة و الدولاب باشمئزاز فلطالما يراها تمثل كفنًا.
توقف امام الدولاب و ما إن فتحه ليضع أول قطعة ملابس حتى باغته فأر ضخم يخرج منه يزاوله حتى أسقطه أرضا ليصطدم بقدم الدولاب فأطلق صيحة تذمر و احتجاج ” يوووه هو يوم بتين من أوله ” بينما تمكن الفأر الضخم من الفرار و صُدم شادى بعدها بإغلاق الباب بقوة من تلقاء نفسه فعاد إلى الوراء و مازال جالسا على الأرض.
سمع رابح صوت صيحة شادى فلم يهتم كثيرا لمصدر الصوت أو سببه و مضى يرتب كُتبه التى أحضرها لتسليته على المكتب ، التقط هاتفه ليحادث صديقه و جلس على الفراش لكنه لم يجد هناك تغطية فنهض ليتجه إلى النافذة لربما كان بإمكانه إلتقاط إشارة و لم يكن ليقوم حتى فوجىء بسقوط الإطار المعلق فوق سريره .. أخذته الدهشة و نالت منه الصدمة ،فلو لم يتحرك قبل ثانية واحدة لكان تهشم رأسه ..أخذ الإطار و وضعه على المكتب على يمين السرير و ذهب ليغتسل.
أخذ عاصم يتململ فى فراشه المتهشم محاولا النوم لكنه كأنما يبحث عن إبرة فى كوم قش و من ثم مضى عقله يروح و يغدو يذكره بأحداث قديمة و جديدة نجح فى نفضها كلها عن رأسه إلا أمرا واحدا و هو تلك الوصية و التى أخذت كلماتها تنبعث فى ذاكرته يسمعها و كأنها تُردد فى أذنيه بصوت خافت هامس ” أنتم لا تعلمون أن هناك دخيلا يريد مقاسماتكم فى هذا الإرث العظيم .. لن ترونه بأعينكم ..”
” يتجسد بمن يريد .. ربما يكون واحد منكم و قد يكون الجميع ..” كان ذلك يتردد أيضا فى عقل رابح .
انتبه عاصم إلى وميض أبيض فى نهاية الغرفة ارتجف له قلبه، حدق بعينيه يضيقهما محاولا رؤية الشىء الذى يحيطه تلك الهالة البيضاء و ليته لم يفعل .
فقد تجلت له أخته المتوفاة تسير خارجة من الغرفة من خلال الباب الذى مازال موصدًا ، فزع و انتفض من مكانه متسع العين فاغرًا فاهُ أقصى مداه يطرق قلبه ضلوعه بمطرقة حادة، فمهما كان مقدار حبك لشخص قد فارق الدنيا لن تكون سعيدا إن ظهر لك هكذا يتسلل بين الحواجز و كأنه طيفٌ فى ليلة حالكة و قصر مرعب.
تقلب رابح على فراشه ليستقر بناظريه على اللوحة على يمينه تلك التى سقطت قبل قليل ، تمعَّن بها ليرى معالمها بوضوح و قد كانت ثلاثة رجال يتنازعون حتى استنزفوا دماء بعضهم البعض ..
رباه ! ماذا يحدث ؟! إنهم يتحركون داخل الصورة يتنازعون!! تمتد يد أحدهم لتخرج بكبد الآخر… مقزز !!
انتصب رابح جالسا وضع كلتا يديه على عينيه بصدمة ثم مضى يفركهما و فتحهما مرة أخرى ليجد الصورة ثابتة بلا حراك ففرك عينيه ثانية و حدق بها بعينين متسعتين ليجد النزاع قد توقف بحق لكن الصدمة كانت فى ذلك الذى يرتسم على مرافقهم بالدماء المتجلطة..يا إلهى إنه…
وشم!!
” يادى الليلة السودة !!! “
قالها رابح ضاربا وجهه كى يستفيق و تراءى له أنه من الأفضل إغلاق الضوء الخافت ثم إنارته ثانية ليقطع دابر الشك و قد كان، فوجد اللوحة كمان هى بلا حراك و لا وشم . تنفس الصعداء و ألقى بجسده المرتعد على الفراش ليهدأ جنون قلبه المنتفض بين ضلوعه.
كان شادى نائما فى ظلام حالك ، فالنوم هو أفضل وسيلة له للهروب من أى شىء مثلما اعتاد دائما لكن عقله الباطن لم يعجبه الحال فظل يقذف برأسه بعضا من كلمات الوصية مثل ” الوشم الأحمر ” بل هى تلك الجملة الوحيدة التى أخذ يتردد صداها بين جدران عقله حتى استيقظ و قد تثاقلت أنفاسه و لم يتحرك بل فتح عينيه فقط و ظل متأملا حلكة الليل التى تشبه ظلام حياته حتى سمع أزيز الباب ينبعث إلى أذنيه و حرارة كبيرة تجتاح الغرفة و كأنها باتت قطعة من سِجّين ، ارتفع صوت أنفاسه و أخذ يلهث كالمحموم يستشعر سير أحدٍ خلفه و لم يكن جريئا ليتقلب و يتحرى الأمر و بدأ يهدأ برويّة ما إن أحس بذهاب من كان يتجول بغرفته فتشجع و ألقى نظرة على الباب ليجده موصدًا كما كان . هدأ قليلا و أخذ يتنفس و يتنفس و كأن الهواء سينفذ من الكون و ما كاد يشعر بالراحة حتى اتسعت عيناه و أخذت تدور فى محجرها حالما سمع صوت أزيز الباب للمرة الثانية و شخص ما خلفه أيضا ، لم يحتمل خوفه تلك المرة فانتصب صارخا حتى صرخ الطرف الآخر ليتبين بعد ذلك أنه عاصم و الذى صاح بوجهه :
– الله يخرب بيتك ايه يا عم فيه ايه ،قطعت لى الخلف .. ايه شفت شبح !!
– ايوا ..اا قصدى لا. ،انت ايه اللى جايبك هنا فى وقت زى ده .
– مفيش يا خويا اللمبة عندى اتحرقت جيت أشوف حاجة أنور بيها شمعة و لا كشاف و لو إنى أشك إن ألقى كشاف فى البيت ده.
رمقه شادى بارتياب ، فقد كان الخوف جليًا على وجه عاصم و الذى رفض الاعتراف به ، و على أية حال كان يمكنه البحث فى أى مكان بالقصر فلمَ دلف غرفة أحدهم ؟!
تنحنح عاصم قائلا :
– احم .. شكله مفيش شمع هنا ..نام يا خويا نام و مش كل ما حد يقرب منك تترعب زى اللى عامل عاملة و تصرعنا معاك.
رد شادى باستهزاء :
– ما هو محدش بيدخل أوضة حد نص الليل يتسحب .
– ايه يتسحب دى، ليه شايفنى حرام ياض و لا ايه .. طب انخمد بقا .
نشق بأنفه ارتيابا و هو يخرج من الغرفة يردد بإزدراء :
” قال يتسحب قال “
بعد مرور عشر دقائق خرج رابح من غرفته أرقًا و قلقًا ليُفاجأ فى نفس اللحظة بخروج عاصم و شادى ، أخذوا يتبادلون نظرات ذات مغزى حتى قطع رابح الصمت قائلا :
– احم .. طيب خلينا متفقين كده إن البيت ده مش طبيعى.
رد عاصم بوقاحة :
– وهو فى ايه فى البيت ده طبيعى ، إذا كان اللى كان عايش فيه مش طبيعى .
احتج شادى قائلا :
– يا ابنى أتكلم عن جدك كويس و ماتنساش أنه ميت.
أشاح عاصم بيده بلا مبالاة و قد احتلت أمارات التذمر وجهه
فراود رابح الشك و سأل عاصم :
– أنت شفت حاجة ؟
– لا ..أنت شفت حاجة ؟
– لا . ثم طالع شادى بناظريه مستخبرا فرد الأخير :
– اا ..لا لاهشوف ايه يعنى !
كان يعلم كل منهم فى قرارة نفسه أنهم كاذبون فأردف عاصم :
– ياللا يا ابنى انت و هو ، مفيش حاجة . خشوا ناموا ، أنا داخل أنام و من غير تصبحوا على خير .
الجزء الثانى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
استيقظ رابح أولا و أخشى أنهم وجدوا للنوم سبيلا فى تلك الليلة ، كانت الساعة تدق السابعة صباحا حينما هبط إلى الطابق السفلى متجها إلى المطبخ و بدأ فى إعداد فنجان النيسكافيه خاصته ليفاجأ بساقين تتدليان من الأريكة فى الردهة فاتجه نحوها متوجسا إذ يجده عاصم يغط فى نوم عميق، فضحك رابح يهمهم:
– أهو الفتوة اللى فينا خاف ينام فى اوضته.
و ما كاد يلتفت حتى أتاه صوت نائم:
– بتقول ايه ياض؟
التفت إليه قائلا :
– بقول صباح الخير.
نهض عاصم متكئا على مرفقيه قائلا:
– و هييجى الخير منين فى المنفى اللى احنا فيه ده.
قالها و أخرج من تحت الوسادة علبة سجائره و شرع فى اشعال سيجارة، لثمها بين شفتيه يتلذذ بسحب نفس عميق منها تنسيه ما عاشه فى الليلة السابقة فأردف رابح مؤنبا:
– حد يشرب سجاير على الريق!
رد عاصم بوقاحة:
– فكك منى.
حينذاك انضم إليهم شادى يبدو فى نشاط و حال أفضل من اليوم قبله و ابتدر حديثه:
– صباح الخير.
رد عليه رابح بينما أشاح عاصم بيده و نهض قرب الباب المطل على التراس الخارجي فبدأ شادى يسعل من رائحة السجائر و استطرد:
– على فكرة السجاير على الريق غلط و..
اندفع عاصم ساخطا:
– بقولك ايه منك له ، هتعملى فيها دكتور و هو الواعظ ماينفعنيش الكلام ده، كل واحد يخليه فى حاله أحسن .
هز شادى رأسه بما يعنى ” مفيش فايدة ” مضى إلى المطبخ يعد افطاره بينما توقف رابح أمام نافذة تطل أيضا على التراس الخارجى و الحديقة و رشف من مشروبه الساخن يتأمل الحديقة الخربة، و كيف كان شكلها قبل أن تصبح مقفرة هكذا ، فى تلك الأثناء كان عاصم ينفث دخان سيجاره يتأمل المشهد ذاته لكنه لم يتعجب عما باتت عليه الآن فهو يراه مصيرا حتميا لكل ما يعيش فى كنف الإنسان و يعايش أحقاده و جحوده.
استرعى انتباههم فجأة صوت غراب يحط فى الحديقة يجر بمنقاريه غراب آخر لكنه ميت جراء صراع عنيف أنزفه من الدماء ما تكفى لتغطية جسده.. كان شادى يرى المشهد أيضا من نافذة المطبخ ، كل واحد يشاهد باهتمام متفرد..
شرع الغراب بالحفر فى الأرض الجرداء و من ثم دفن صديقه أو لعله أخيه أو يقربه بصلة ما و ردم عليه ثانية.
كان نبض قلوبهم يُسمع كصوت عقارب الساعة بعد منتصف الليل، لقد استمعوا إلى تلك القصة كثيرا حين علّم الغراب قابيل كيف يدفن أخيه هابيل، لكنهم لم يتخيلوها بتللك الرهبة كالتى بُثَّت فى قلوبهم ، أغرق كل منهم فى التفكير و شقت الهواجس طريقها إلى عقولهم فمضى ينظر كل منهم إلى الآخر بطرف خفى، يرمقون الغراب بنظرة ثاقبة، تعجب لها الغراب بذاته و كأننى أسمع ما يدور بخلده ” لمَ تنظروا إلىّ هكذا، أتحاسبوننى عما ليس لى به ذنب، أحياناً تقولون أن صوتى بشع و حينما ترونى تتشاءمون و الآن فيما أخطأت؟! ألم أتعلم ذلك منكم..لقد رأيت أخا يقتل أخيه و أنا من أريته كيف يدارى جريمته.. اعذروني لقد بدأ فيكم الشر و لن ينتهى فلا تلومونى و كفّوا عن نظراتكم القاسية “
و بعد أن انتهى الغراب من توجيه حديثه الصامت حلق مرتفعا و غادر المكان لكنه لم يغادر أذهانهم فاتجه كل منهم إلى غرفته بصمت مخيف.
فى الظهيرة ، نزل عاصم فى هرع متألما يبحث عن صندوق الاسعافات فلم يجده حتى لمح من النافذة وقوف شادى عند البوابة الخارجية للقصر يتحدث مع أحدهم لكنه لم يظهر فكان جسده متورايا خلف الجدار، فتابع عاصم بحثه حتى دلف شادى ليهلع من منظر الجرح فى رسغه فركض نحوه متسائلا:
– ايه الجرح ده، حصل ازاى؟
أسرع شادى فى إحضار صندوق الإسعافات بينما كان يجيبه عاصم:
– مش عارف حاجة غريبة اوى ، مسكت التابلت مالقتش شبكة افتح نت ففتحت جيم وفجأة لقيت التاب بيسخن جامد و فرقع عمل شرارة جامدة لسعت ايدى و حرقتها بالشكل ده.
ما كاد ينتهى شادى من تضميد جرح عاصم حتى سمعا الاثنان صوت صرخة فى الأعلى فنهضا ليصعدا لكن ابتدرهما رابح متجها إلى الأسفل يمسك برسغه هو الآخر و تبين شادى نفس الجرح بيده فصعقته غرابة الأمر فسأل عاصم هاته المرة بينما كان شادى يعالج جرح رابح:
– أنت.. أنت اتجرحت ازاى أنت كمان؟
– أنا كمان؟!
قالها متعجبا حتما لاحظ جرح عاصم فاستطرد:
– بصراحة اللى حصل كان غريب جدا، أنا كنت بقرأ فى كتاب و فجأة…
عاصم : ها فجأة ايه؟
رابح : ما انتوا مش هتصدقوا.
رمقه شادى بتعجب فقال عاصم بنفاذ صبر:
– أووف.. يا عم قول.
رابح: كنت بقرأ فى الكتاب و فجأة لقيته بيولع و أنا ماسكه رميته بسرعة فوقع على السرير و كان هيعمل مشكلة و لما حاولت أطفيه حرق لى ايدى زى ما أنتوا شايفين.
عاصم باستهجان: يعنى عايز تقول إن الكتاب ولع لوحده؟
قلب رابح شفتيه قائلا : ده اللى حصل .
تمتم شادة و هو يلف الشاش حول رسغ رابح:
– فعلا غريب!
تبادر إلى ذهن عاصم تساؤلا فألقى به إلى شادى:
– صحيح يااا..دكتور، أنت كنت بتكلم مين برة؟
رد شادى منهمكا فى عمله دون ان ينظر إليه:
– اه ده واحد كده لقيته واقف أدام القصر و لما لقانى ببص عليه دخل و قاللى إنه جار جدك و كان متعود يزوره.
عاصم مستنكرا: جار جدك ازاى يعنى؟ ده أقرب بيت من هنا على مسافة كيلو.
هز شادى رأسه قائلا: معرفش..ده اللى قاله.
انتهى شادى من تضميد جرح رابح بينما مضى عاصم و رابح يتبادلان نظرات الشك و الحيرة و قد قفزت فكرة إلى رأسهم و هى لماذا جُرح عاصم و رابح بحادثتين غريبتين و فى نفس المكان فى رسغ الذراع اليسرى و شادى لم يصبه شىء فضلا عن كلامه الغير منطقى عن الجار المزعوم و ما من جيران فى تلك المنطقة.
صعد شادى إلى غرفته ليغتسل و أثناء مروره بغرفة عاصم لفت انتباهه جهاز التابلت على فراشه فثار ذلك فضوله ليراه ،فدخل و التقطه و كانت صدمته حينما رآه سليما تمامًا لم يحدث له شيئا غير أنه فقط لا يعمل و ربما تكون نفذت بطاريته، هكذا اعتقد لأنه حاول تشغيله و لم يستجب. فخرج من الغرفة متجها إلى غرفة رابح ليجد سريره مرتبا و نظيفا ليس به أي آثار لحرق ما و الكتاب ملقى عليه سليما أيضا .
كان عاصم و رابح يتبادلان نظرات الشك حول شادى يفكر عاصم ” المفروض ماثقش فى حد فى البيت ده، اشمعنا حصل لى كده أنا ورابح بس، ما هو اللى تحسبه موسى يطلع فرعون “
و كذلك كان يقول رابح فى نفسه ” ما يمكن جدى كان عنده حق فى اللى قاله، يمكن فيه دخيل عايز يخلص مننا، بس يقصد ايه لما قال واحد مننا، معقول يكون شادى عايز يخلص مننا علشان الثروة كلها تبقى ملكه لوحده….”
قطع تفكيرهما صوت شادى مستهجنًا :
– ايه ده؟
التفتا إليه ليجداه يمسك بيدٍ جهاز التابلت و باليد الأخرى الكتاب.
صدمهما ما شاهداه ، و ابتدر رابح:
– ايه ده ازاى الكتاب رجع سليم تانى بعد ما اتحرق.
و سارع عاصم بدوره يتفحص جهازه قائلا:
– و التاب.. التاب ازاى رجع سليم كده كأن ماحصلش حاجة، ده فرقع فى ايدى و…
صاح شادى مستكفيا :
– بس.. كفاية تحوير انت و هو ، انتوا بتدبروا لـ ايه بالظبط؟ عايزين تخلصوا منى مش كده .
هتف رابح بعصبية:
– انت اتجننت يا ابنى ، ليه شايفنا قتالين قتلة، و ليه ماتبقاش انت ورا اللى بيحصل ده، الأول الجار المزعوم و احنا عارفين إن مفيش جيران هنا و بعدين انا و عاصم نتجرح بطريقة غريبة و فى نفس المكان و أنت لأ، مش يمكن انت ورا اللى بيحصل لنا ده.
حدق عاصم برابح بشك و أردف :
– و يمكن أنت اللى ورا اللى حصل ده، و جرحت نفسك عن قصد علشان ما نشكش فيك ، ما هو مفيش كتاب بيتحرق و يرجع سليم و كمان تتجرح فى نفس المكان مش غريبة الصدفة دى إلا إذا كانت مقصودة؟!
تدخل شادى:
– كفاية بقا، كل واحد هيرمى التهمة على التانى ، واحد مننا مسئول عن اللى بيحصل ده و ياريت يوقف اللى بيعمله و نقضى الـ 3 أيام دول فى سلام لحد ما نغور من هنا.
تركهما و غادر إلى غرفته و لم يبرحها حتى المغرب ، حاول خلال تلك الفترة أنا ينام و لو قليلا، لكن حينما يغادرك الشعور بالأمان تصبح أقصى أمانيك هى أن تحظى بنوم هادىء .
حل المساء و نزل عاصم إلى الطابق السفلى ليجد رابح جالسا أمام التلفاز متأففا فسأله عاصم:
– ايه مالك بتنفخ ليه؟
– مش لاقى حاجة فى البيت ده تسلى الواحد حتى التليفزيون خربان و كل قنواته بايظة. و التليفونات مافيهاش شبكة.
– فعلا والله حاجة تخنق.. اومال فين التالت؟
– قاعد فى أوضته من ساعتها ماخرجش.
انتبه رابح لشدوه عاصم المفاجىء فكان شاردا بعينيه خارج المنزل فسأله بتعجب :
– ايه اللى لافت انتباهك اوى كده برة؟
– ولاه يا رابح!
– ولاه؟! يا ابنى عاملنى باحترام شوية.
– ياعم مش وقتك..فيه حد برة.
– حد..حد مين؟
– بص.. شايف الخيال اللى ورا غصون الشجر هناك ده.
تغضن جبين رابح محاولا التركيز حتى رأى طيفا يروح و يغدو فسأله عاصم:
– انت متأكد إن شادى فوق؟
– مش عارف..بس ماشفتوش من ساعة ما نزلت.
– طب تعالى نشوف.
– آجى فين ياعم؟
– مش وقت جُبن ده، لازم نشوف ايه اللى برة..ياللا.
حثّ رابح خطاه و تحرك خلف عاصم بتوجس، و قبل أن يصلوا إلى الباب باغتتهم الكهرباء بالانقطاع فانتفض رابح صارخا فضربه عاصم هاتفا بنبرة تنهشها الخوف:
– بس بتصرخ ليه..احنا ناقصين رعب، هو شادى مفيش غيره..تعالى نشوف سكينة الكهرباء.
و حالما كانا فى طريقهما يسير رابح خلف عاصم يتشبث بظهره يردد له عقله أنه سيباغتهم كائن مجهول بالظهور فجأة و بينما كان فى طريقهما إلى لوحة الكهرباء شدّ عاصم من ملابسه فهتف بعصبية:
– ايه يا ابنى هتقطعلى القميص، فيه ايه؟
ابتلع رابح ماء حلقه بصعوبة بالغة و أشار بيده إلى الأعلى فتتبع عاصم إشارته ليتبين غرفة شادى و كانت الوحيدة التى لم ينقطع عنها الكهرباء.
صدمته رؤية ذلك و جذب رابح يحثه على العودة ” ياللا”
– على فين؟ مش هنشوف مشكلة الكهرباء ؟
– تعالى بس لازم نعرف ايه اللى بيحصل ، معاك موبايل؟
– اه.
طب شغل الكشاف.
فعل رابح كما طلب منه عاصم فأخذ الاخير هاتف الاول ينير به الطريق و ركضا نحو غرفة شادى حتى توقفا أمامها ، فسأل رابح:
– هنعمل ايه؟
– هندخل و نشوف.
– متأكد.
– لازم.
أخذ عاصم نفسا عميقا و فتح الباب بعنف دفعة واحدة يجوب ببصره الغرفة بأكملها فى اقل من الثانية لكن ما من أثر لشادى، فالتفت إلى رابح بارتياب، دلف عاصم الغرفة و من خلفه رابح حتى لفت انتباههم خيال أحدهم بالحمام منعكسا على زجاج بابه، فاتجها صوبه و توقفا أمامه بقلب ينتفض ذعرا، فتح عاصم باب الحمام فجأة و كانت الصدمة حينما شاهدا شادى يقف أمام مرآة الحوض يمسك بيده اليمنى سكينا ذا نصل حاد و يشرع فى ذبح نفسه.
انقضَّ عليه عاصم و أبعد يده عن رقبته حتى أفلت منها السكين لكن شادى لم يتحرك و كأنه منومٌ مغناطيسيًا اندهش لحالته عاصم و رابح فهمَّ عاصم بصفعه على وجهه فاستفاق شاهقًا متسائلا عمّا حدث كمن لا يعرف شيئا أو كمن فارق الحياة لدقائق فى غيبوبة و عاد :
– فى ايه؟ انتوا ليه واقفين هنا و…
انتبه لخط سيل الدماء على رقبته ، اتسعت عيناخ و فغر فاه فصاح به عاصم :
– انت اتجننت، عايز تجيب لنا مصيبة.. اه و لا دى لعبة من ألاعيبك علشان تنفى بيها إنك أنت اللى كنت تحت فى الجنينة و انت اللى قطعت الكهرباء..
– ايه ايه بس بس.. أنا مش فاهم اصلا انت بتتكلم عن ايه و كهرباء ايه اللى اتقطعت ما النور شغال أهو..
– النور شغال بس فى أوضتك انت و قاطع فى البيت كله.
– يا جدعان والله ما اعرف حاجة، أنا كل اللى فاكره.. إنى كنت بغسل وشى و فجأة… شفت نفسى فى المراية ماسك سكينى و.. و بدبح نفسى ، فجأة ببص على الحوض لقيت السكينة و ماحستش بنفسى غير و انت بتضربنى.
رابح بعدم تصديق:
– والله و احنا مكتوب على وشنا هُبل بقا، و المفروض نصدق الكلام ده.
– والله تصدقوا و لا ماتصدقوش دى مشكلتكوا.. أنا اللى عندى قولته.
خرج عاصم من غرفة شادى يستشيط غضبا و تبعه رابح و الذى بدا على وجهه الارتياب فهتف عاصم بحنق :
– أنت مصدق اللى قاله ده؟
– مش عارف..
– مش عارف ايه انت كمان هو فيه عيل صغير يصدق الكلام ده.
– بص يا عاصم.. خلينا متفقين، اننا من ساعة ما جينا البيت ده و فيه حاجات غريبة بتحصل، احنا ماكملناش يوم هنا و شوفنا العجب ، ممكن يكون على حق و مش بيكدب بس أنا فى الوقت ده مش قادر أصدقه الحقيقة.
اومأ عاصم بتفهم ثم أردف:
– أنا تعبت اوى هدخل أنام.
– و انا كمان، تصبح على خير.
هز عاصم رأسه ضاحكا بتهكم يضرب كفا بكف و رد بينما كان متوجها إلى غرفته:
– والله الخير شكله غضبان علينا و على البيت الملعون ده.
الجزء الثالث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فى صباح اليوم التالى ، اتجه شادى إلى المطبخ، حينذاك تراءى له عاصم ورابح يجلسان سويا يتحدثان و صمتا بغتة ما إن لمحاه، فألقى عليهما التحية بلا مبالاة و قال:
– أنا هعمل شاى أعمل لكم معايا.
ردّا الاثنان عليه بالإيجاب و مع ذلك استشعر من لهجة عاصم و ملامحه الشك و الريبة فلم يعِر ذلك اهتماما و وضع براد الشاى على البوتاجاز و بعد مرور دقائق قدّم لهما قدحي الشاى فتعجبّوا فانطلق عاصم متسائلا:
– أومال فين الكوباية بتاعتك؟
– هعمل بتاعى دلوقتى لوحده علشان هشربه باللبن.
تركهما و غادر ثانية إلى المطبخ و كان مفتوحا على الصالة و هكذا كان بإمكانه رؤية نظراتهما المتبادلة بوضوح يغمرها الخوف و الشك، حتى رفع رابح قدحه إلى فمه و حثّ عاصم على تناوله أيضا، لكنهما استشعرا طعما غريبا به فتناولا رشفة أخرى.. ربما ليس به شىء، فالرشفة الثالثة فالرابعة كلا الأمر مريب، هذا الشاى ذو مذاق غريب غير معتاد.. نظر رابح إلى عاصم و قد آلمته معدته فبدأ عاصم يشعر بنفس الألم، لاحظهما شادى فارتفع حاجبه و قال مستخبرا ببرود:
– ايه مالكوا الشاى مش عاجبكوا و لا ايه؟
تكلم عاصم بآلم:
– انت.. انت حاطط ايه فى الشاى .
قلب شادى شفتيه و رفع حاجبية بلا مبالاة و قال:
– ايه مش باين و لا ايه؟ يمكن سم؟ أو اا..
انقضّ عليه عاصم يلكمه و يدفعه إلى الخلف يردد:
– أو ايه؟ او ايه انطق..
ظل عاصم يدفعه بفزع و غضب حتى اصطدم شادى بالبوتاجاز ليتلتصق رسغه الأيسر بالبراد الساخن فصرخ متألما و دفعه ليسقط بعيدا عنه و أمسك بيده اليمنى إناء من المياه و قذف به بوجه عاصم و رابح صارخا:
– فوقوا بقا من الوساوس و الهواجس دى.. عقلكوا الباطن بيصورلكوا سيناريوهات و تصدقوها.. أهو الشاى أهو .
أمسك بفنجانيهما و تجرعهما ثم هتف:
– أهو ماحصليش حاجة.
هنا شعر عاصم و رابح بالتحسن و كأن ألمًا لم يغزو جسديهما منذ دقائق فتأثير الوساسوس القهرية التى يفرضها عليك العقل تكون أكثر سمية من السم نفسه و لعلكم تذكرون هتلر و الذى قتل بعض ضحاياه ذات مرة مستخدما ذلك السلاح فأوهمهما بتسريب غاز سام سيميتهم بعد بضع ساعات و قبل تلك المدة كانوا ميتين بالفعل لكن ما من غاز هناك أساسًا.
طغى الخجل على ملامح عاصم و رابح لِما لحق شادى من أذى بسببهما، بينما تركهما شادى متبرمًا و ذهب ليحضر صندوق الإسعافات و بعد أن عاد به اقترح عليه رابح أن يترك تلك المهمة له فوافق شادى على مضض فقد كان الجرح يؤلمه بشدة. التقط رابح قطعة قطنية و وضع عليها القليل من المطهر و كاد أن يضعها على الجرح لكن سرعان ما رفعها و أخذت عيناه تزوغ فى محجريها مما أثار ارتباك عاصم و شادى متسائلين:
– فى ايه؟… انت يا ابنى ما ترد.
تسمرت عيناه طويلا على الجرح و الذى لم يعد جرحًا عاديًا.. تمتم رابح بصدمة :
– الوشم.. الأحمر.
رد عاصم بنفاذ صبر:
– ما تقول حاجة نفهمها انت هتتجنن انت كمان.
لكنه فوجىء بشادى يصرخ:
– مش هو بس اللى هيتجنن.. ايه اللى بيحصل ده.
اقترب منهما عاصم و الذى كادت تخرج مقلتاه من عينيه ما إن تراءى له الجرح يتحول إلى وشم غريب فمهمهم رابح كمن تذكر أمرًا منسيًا: – الصورة !
عاصم و شادى بغباء : هاه؟
تركهما و ركض واثبًا حتى الطابق الثانى و دخل غرفته منظفعًا حتى توقف أمام اللوحة التى وضعها بيديه على المكتب ليجد الصورة به استحالت إلى ثلاث رجال موشومى الرسغ الأيسر، لم يهمه أن الصورة تحولت و ثبتت على هذا المنظر لكن ما استرعى انتباهه هو أن الثلاثة موشومون و ليس واحد منهم!
نزل إلى الطابق الأسفل راكضًا فسأله عاصم:
– انت رحت فين فجأة و..
– مش وقته، احنا لازم نفك الضمادة.
– ليه؟
– اسمع كلامى.. انا هفكها و انت هتعرف.
قام رابح بفك الضمادة و قل أن ينزعها عن يده أغمض
عينيه و تنفس الصعداء ثم رفعها ليُصدم الثلاثة بوشم أحمر أيضا عوضا عن الجرح، أصاب عاصم الهياج فزأر صائحا:
– ازاى ده انتوا عايزين تجننونى.
لم يصبر عليه رابح فأمسك برسغ عاصم بقوة و نزع عنه الضمادة ليظهر الوشم الثالث و على الرغم من أن الوشم كان عبارة عن رموز و أشكال غريبة و كأنها محفورة فى جرح نازف لكنه لاينزف بل هى على هيئة دماء متجلطة تحت الجلد .
تمعن كل واحد فى الوشم المنقوش على جرحه، فـ شادى كان يرقب وشم الساعة على مرفقه تشير عقاربها إلى الثانية عشر بالضبط، فوجد نفسه تلقائيا ينظر إلى ساعة الحائط ليلقاها تدق العاشرة و الخمس دقائق، بينما رابح كان مشدوها بذلك الرمز الذى نقش بجوف جرحه، حلزون؟! أما عاصم فتركهم و هرول إلى حوض المطبخ و فتح المياه على جرحه يفركه على أمل أن يمسح صورة ذلك المسدس، لكن دون جدوى فتحدث رابح:
– انت بتعمل ايه يا عم، هما شوية حبر!.. ده وشم ، وشم بجد يعنى جدك و لا كان بيهذى و لا بيخرف.
عاصم:
-هو ايه ده اللي بجد؟ انت عارف ده معناه ايه، معناه اننا هنخوض حاجة احنا مش عارفينها و لا قدها زى اللى داخل يحارب و هو أعمى، محدش يعرف ده غير جدك، تقدر تقوللى ممكن نخلص من الورطة دى ازاى؟
شادى بعصبية:
– هششش بطلوا بقا، احنا لازم نشوف حل، أقولكوا أحسن حاجة نسيب المكان ده و نمشى.
صمت الاثنان و كأنهما لم يسمعاه رغم أن هذا ما كان يدور بخلدهم فصاح شادى:
– ايه خايفين على الورث؟ الأفضل تخافوا على نفسكوا، مفيش فلوس هتنفعنا لو مُتنا.
رد عاصم و قد اتخذ قراره:
– انا كده كده ماعنديش حاجة أخاف عليها و لا خايف من الموت و ايه اللى يضمن لى إن بعد ما بخرج من هنا مايحصلش معايا حاجة تانى، أنا قاعد ولو جدك بيتحدانا، فأنا قبلت التحدى.
تحركا بناظريهما صوب رابح فقال:
– اا.. ايه بتبصولى كده ليه؟
عاصم:
– نويت على ايه؟ هتمشى و لا هتكمل.
تنهد رابح بعمق ينظر إلى الأعلى مفكرًا ثم قال بعد ثوان:
– هكمل.
ضرب شادى جبهته و انطلق صائحا:
– يا جماعة انتوا ليه مش عايزين تفهموا، الحكاية دى مش سهلة، احنا قضينا ليلة واحدة هنا شفنا فيها الويل و شكّينا فى بعض و أنا كنت هدبح نفسى،انتوا فاهمين احنا داخلين على ايه؟ اللى بيحصل معانا دا..دا دا كله تصرفات شيطانية مش طبيعية أبداً،يعنى ايه نتجرح احنا التلاتة و جرحنا يتحول لوشم و يعنى ايه بعد ما كتاب يولع يرجع سليم..
ران الصمت عليهم لثوان طويلة حتى قال شادى بنفاذ صبر :
– ماشى انتوا عايزين تكملوا..تمام و انا معاكوا بس افتكروا إنى حذرتكوا.
دمدم رابح ببعض كلمات لم يسمعوها بوضوح فتساءل عاصم:
– انت يا ابنى..بتبرطم تقول ايه؟
رابح: بحاول أفكر الوشم ده معناه ايه و هنوصل لـ هدفنا اللى مش عارفينه ده ازاى؟
اعترض شادى:
– لا الهدف معروف جدك قال انه دخيل عايز يحولنا كلنا و الفلوس كمان رماد.
عاصم بغضب:
– لا يا شيخ و الدخيل ده بقا ابن خالتك؟
لاذ الجميع بالصمت فاستطرد عاصم:
– جدكوا قال لو عايزين نتخلص من الدخيل ده لازم نتبع الوشم الأحمر، تفتكروا ده معناه إن كل واحد يدور على الحاجة اللى مرسومة فى الوشم بتاعه هنا؟
شادى: أفتكر كده.
رمقهم رابح بخيبة ثم قال:
– لا والله طب انت ف ايدك ساعة و سهل تلاقى ساعة فى قصر كبير زى ده و انت ف ايدك مسدس و ممكن بردو تلاقيه، هل بقا فيه بحر هنا أدور فيه على حلزون؟! و لا هطلع ادور عليه فى جنينة الأشباح اللى برة دى.
تدبر شادى قليلا ثم قال:
– طب ما يمكن تكون تحفة فنية على شكل حلزون أو حاجة زى كده يعنى مش لازم حلزون بجد.
وافقه عاصم و أومأ رابح على غير اقتناع ثم نهض كل منهم يبحث عما طُلب فى وشمه.
استمر البحث لمدة نصف ساعة متواصلة حتى عادوا إلى نفس النقطة يجرون أذيال الخيبة فقالوا تباعا:
– مالقتش حاجة.
زفروا بغضب و غيظ و جلسوا يفكرون حتى قال رابح :
– بصوا انا عندى فكرة مش عارف هى صح و لا غلط.
حدقا فيه الآخران باهتمام يحثانه على الاسترسال فاستأنف:
– لو ركزنا فى كلام جدكوا هنلاقيه بيقول نتبع الوشم و ده ممكن نفسره انه عايزنا نتبعه سوا مع بعض بدون ما نتفرق و أعتقد كلمة ” نتبع ” ممكن يكون معناها حاجة بعد حاجة يعنى فيه تسلسل .
شادى بغباء: يعنى؟
أشار له عاصم قائلا: يعنى يقصد ان هنتبع وشم ورا التانى لحد ما نوصل.
هتف رابح مبتسما: بالظبط.
شادى: أيوا بس على أى أساس هنختار الوشم الأول؟
أجابه رابح: طالما فيها تسلسل يبقى أعتقد من الصغير للكبير .
شادى و كأنه يرفض أن يكون ضحية تلك الفكرة :
– لا لا مش معقولة هنتبع الوشم الأصغر و بعدين الأكبر ده هبل يعنى.
تبادلا عاصم و رابح النظرات و ضحكا فقال رابح:
– انت فاهم كويس إنى أقصد الأصغر فى السن فينا مش الوشم الأصغر .
زم شادى فمه و قالها صراحة:
– آااه قولوا انكوا عايزين تضحوا بيا بقا.
عاصم:
– يالاه يا عبيط انت، احنا هنكو مع بعض يعنى يا اما هننجا سوا يا هنموت سوا.
شادى:
– طب بس ماتفولش فى وشى.. ربنا يسامحك يا جدى على اللى انت عامله فينا.
عاصم بكمد:
– يسامحه!
شادى فى محاولة إسكاته:
– الراجل فى دار الحق.. ايه! مايجوزش عليه غير الرحمة.
رمقه عاصم بغيظ: و أنا اتكلمت!
تدخل رابح:
– طب فككوا من الكلام ده بقا و تعالوا نشوف حوار الساعة اللى مرسومة على ايد شادى.. بصوا أكيد طالما كل واحد اترسم على ايده حاجة معينة يبقى هو الوحيد اللى يعرف عن الحاجة دى.. حاول يا شادى تفتكر، انت كنت اقرب واحد لجدك مننا، و دلوقتى انت لما دورت مالقتش غير ساعة الحيطة و زى ما احنا شايفين مش هتوصلنا لأى حاجة.. حاول تفتكر مفيش اى ساعة تانية هنا؟
– دورت يا ريس والله مفيش غير الساعة دى و…
صمت فجاة و كأنه تذكر أمر ما، فقال عاصم يحثه على التحدث:
– أيوا، و ايه بقا؟
شادى بحماسة: افتكرت.. أكيد هى.
انطلق عاصم متحمسا:
– هى ايه دى ياض.. ماتقول.. بوظت أعصابنا.
زم شادى فمه بامتعاض و هز رأسه استهجانا ثم أردف:
– يا ابنى انتى لسانك اللى بينقط سكر ده مش ناوى تعدله شوية؟! ايه ياض دى؟
عاصم بتهكم:
– طب يا عم الدكتور انجز و قولنا افتكرت ايه.
– مفيش فايدة! المهم انا افتكرت إن مرة زمان و أنا صغير..
-يييي ده لسه هيقولك و انا صغير و يحكى قصة حياته.
– يا حول الله.. يا ابنى انت ناطط فى بؤى.
– ما تستنى يا عاصم أما نشوفه عايز يقول ايه.
وضع عاصم يدهه على فمه ثم قال:
– أهو اتخرست اهو ياك يقول حاجة مفيدة.
رمقه شادى باشمئزاز و قال:
– كنا فى زيارة لجدى هنا و كنت تقريبا عندى 6 سنين، و كنت بلعب مع الدادا استغماية و لما كنت بدور على مكان استخبى فيه طلعت الجناح الشرقى للقصر اللى فيه اوضة مكتب جدك لقيته واقف قدام ساعة كبيرة بصندوق كبير وبيفتح باب جوا الصندوق زى ما يكون خزنة و استخبيت برة لحد ما طلع و دخلت علشان أستخبى فى الساعة فتحت بابها الخارجى و وقفت أدام الباب اللى جوا بس لقيته مقفول و مش بيفتح و فجأة باب الساعة الخارجى اتقفل عليا بشكل مفزع و قعدت أصرخ لحد ما جدى جه طلعنى وقتها قاللى حاجة غريبة أوى مانستهاش لحد النهاردة، قاللى أنت مستعجل على ايه بكرة تدخل غصب عنك، وقتها يمكن تندم زى جدك. وقتها مافهمتش حاجة و كنت خايف و من ساعتها و أنا مابحبش آجى القصر ده.
اقشعر بدن رابح و عاصم حد الارتجاف حتى قال عاصم:
– للأسف مفيش أدامنا حل تانى، زى ما قال جدكوا هندخلها غصب عننا.
حك رابح ذقنه بتفكر ثم تساءل:
– بس يا ترى ايه اللى جدكوا ندم عليه؟
ضحك عاصم ساخرا:
– مستعجل على ايه، ماهو قالك كده كده هنعرف.
أشار لهم رابح قائلا:
– طب ما ياللا بينا نشوف فين الساعة دى.. شادى ياللا ورينا طريقها… شادى.. شااادى!!
– هاه!
– هاه ايه، مش انت اللى عارف مكانها .
– اه.. عارف.
عاصم بحنق:
– طب ما تخلص يا ابنى!
تذمر شادى و سار أمامهم يدمدم:
– ربنا ينتقم منكوا يا بُعداه.. هتودونا فى داهية.
اضطرب لمّا وجد هناك من يمسكه من ظهر سترته فكان عاصم و قال بلهجة تحذيرية :
– بتقول ايه يالاه؟
– مابقولش ياعم، اوعى.
عاصم متوعدا:
– طب ماتبرطمش تانى، هاه!
أجبرت مشاحنتهما رابح على الضحك، و ساروا فى طريقهم إلى الجناح الشرقى للقصر حتى توقف شادى أمام غرفة قديمة تحرسها العناكب و كأنها جعلت منها مستوطنة ، أخذ عاصم نفسا عميقا و ركل الباب بقدمه بعدما لقوا صعوبة فى فتحه فانكبّ من أعلى الباب أتربة متحجرة بعوامل الزمن، تتدلى من أعلى الباب خيوط العناكب.
الجزء الرابع و الأخير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شعروا بالاشمئزاز لكنهم دخلوا على أية حال فقال عاصم:
– فين بقا الساعة دى؟
تفكر شادى قليلا يستذكر ما حدث منذ سنوات طوال حتى وجد نفسه يتحرك صوب الحائط المقابل للباب و توقف أمام صندوق عظيم يغزوه الغبار الثقيل و الحشرات و العناكب فأشار عليه و قال:
– هى دى الساعة بس التراب مغطيها.
تقدموا و شرعوا فى تنظيف ذلك الصندوق الطويل حتى وصلوا إلى ساعته و نظفوها ليجدوا الساعة بها تدق الحادية عشرة و خمس و أربعون دقيقة، أصابهم الذهول ليس لرؤية تلك الساعة لكن لأنها تبدوا ساعة عادية بصندوق يرمح به بندول ، نعم شكلها غريب لكن لا توحى بأمر مريب. حينئذ قال رابح:
– ها و بعدين؟
عاصم: لا بعدين دى يقولها الدكتور شادى اللى كان بيهرى من شوية… بقا بذمتكوا واحد عنده ست سنين هيفتكر حاجات زى دى لحد دلوقتى، شكله كان بيحلم.
لم يأبه شادى لتعليقاتهم السخيفة و مضى قدما نحو الساعة، فتح الباب الخارجى لها، انتفض قلبه بين ضلوعه يتذكر ذلك اليوم حينما كان بداخلها لكنه على الأقل ليس بمفرده هاته المرة، دلف إلى الصندوق وتحسس جداره الملامس للحائط و طرق عليه و شرع فى فحصه و كانت صدمته حينما اكتشف أنه ليس هناك حائط بل خواء خلف ذلك الجدار الخشبى المتمثل فى باب، لكن أين مفتاحه و أين موضع المفتاح.
سمع صوت عاصم:
– هاته يا ابنى من الساعة دى و تعالوا نشوف هنتصرف ازاى؟
رد قائلا :
– طب بطل هرى و تعالى شوف بعينك، الباب أهو و مفيش وراه حيطة بس مش عارف ده يتفتح ازاى.
تسمر عاصم و رابح مشدوهيْن بما سمعا فدلف رابح و فحصه قائلا:
– ده باب بجد .
خرج ثم دلف عاصم و شرع يفحصه هو الآخر ثم قال:
– بس ده مفيش مكان كالون حتى هنفتحه ازاى؟
مابدهاش بقا انا هعمل معاه محاولة كده.
ابتعد عاصم مسافة قليل من الباب ثم اندفع نحوه محاولا كسره لكن النتيجة كانت صرخته المدوية من الألم و كأنه ارتطم بفولاذ حاد و أصيب بشد عضلى فى نصف جسمه الأيمن فساعداه رابح و شادى على الخروج و قال شادى:
– لازم نتعامل بحذر شوية يا جماعة.. الحركة اللى هعملها دى هتوجعك شوية بس استحمل .
و بحركة واحدة طقطقت عظامه و عادت إلى وضعها الطبيعى مخلفة بعض الآلام فى الفقرات و العضلات .
حينذاك قال رابح بتعقل:
– طب يا جماعة مش ملاحظين حاجة؟
– ايه؟
– الساعة فى ايد شادى، العقارب فيها واقفة على 12 بالظبط أما دلوقتى الساعة…
التفت إلى الساعة و تابع:
– الساعة دلوقتى 12 إلا عشرة فاضل عشر دقايق، خلونا نستنى و نشوف ايه اللى هيحصل فى الوقت ده.
رفعوا الأغطية البيضاء عن أريكة قبالة الساعة و جلسوا عليها تتعلق أنظارهم بعقارب الساعة يترقبون الثانية و الأخرى، تطرب نبضاتهما أنغاما عالية كانوا قادرين على سماعها، إنها أنغام الخوف، الخوف من المجهول، ذلك ما لا تدرك كنهه و لا إلام سيقودك، ربما تكون جانٍ أو مجنى عليه، ربما تواجه ما لا يمكنك مجابهته فيكون أكبر من قدراتك البشرية التى تحسبها محدودة، ربما ستذهب إلى مثواك الأخير و لا تعلم هل هو نعيم أم جحيم..
تثبتت أعينهم فجأة و لم تعد تطرف ما إن دقت الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل، فابتلعوا ماء حلقهم و نهضوا بارتياب و ذعر، و ما أخافهم أكثر صوت ذلك المزلاق الذى وُجد من العدم لينفتح باب الساعة الداخلى معلنًا الترحاب بهم، وقف كل منهم ينظر إلى الآخر و قد تبادر إلى أذهانهم سؤال واحد: هل يكملون هذا الطريق أم يعودون و فى الحالتين سيواجهون مصيرهم.
أردف عاصم بعد تردد كبير :
– ياللا يا جماعة، مفيش أدامنا حل تانى.
وافقه شادى و رابح مكتفيين بإماءة بسيطة و جرّوا أقدامهم حتى مضوا أمام الساعة، تقدمهم شادى و دفع الباب ببطىء وئيد خشية مما سيلقاه، كان الظلام سيد الموقف خلف الباب فزوده رابح بكشاف هاتفه ، أخذه منه شادى و وجه الإضاءة ليظهر أمامهم مالا يتوقعونه..
سرداب طويل مظلم يضيق جانبيه بآخره منحنى، هذا ما تراءى لهم من خلال ضوء الكشاف الهزيل، تسمر شادى مكانه و لم يتحرك قيد أنملة و قد غادر ذهنه بعيدا، فحثّه رابح على التقدم، ففعل. خطى أول خطوة نحو المجهول أو ربما الدخيل كما أسماه جده، تبعه عاصم و رابح، و الحقيقة أن الثلاثة كانوا مرعوبين لكن قرر عاصم أن يمدّهما ببعض الشجاعة التى ليس لديه إياها فقال:
– ايه يا جدعان خايفين من ايه، ممر عادى، وسعولى انا هشوف فيه ايه الممر ده.
تقدمهم و مشوا خلفه و لم يقل توترهم بل كلما غطوا فى الظلام يزداد خوفهم، و ما أتى كان أعظم. فقد انتفضوا صارخين ما إن سمعوا صورت ارتطام الباب خلفهم فجأة و غُلق المزلاق، صرخوا و ركضوا نحو الباب ليجدوه قد أغلق تماما، حاولوا دفعه بكل السبل لكن دون طائل من ذلك.
صرخ شادى:
– عاجبكوا كده هنعمل ايه دلوقتى؟ هنعمل ايه، هنموت هنا.
رد رابح محاولا تهدئته:
– يعنى احنا كنا نعرف ان ده هيحصل.. اهدا بس، أكيد فيه حل.
– حل ايه فى أم المكان الملعون ده.
صرخ به عاصم:
– هو ملعون فعلا.. بس بقا خلاص اسكتوا، احنا متوترين كفاية و لازم نفكر بالعقل.
شادى باضطراب : شوف مين بيتكلم عن العقل دلوقتى، عقل ايه هاه عقل ايه بقولك هنموت هنا.
رابح و قد نفذ صبره:
– يوووه كفاية السيرة دى بقا خلاص عرفنا اننا هنتنيل نموت.. خلونا نفكر فى أى طريقة، احنا فى مكان مش عارفين فيه نسبة الأكسجين ايه و لا بنتنفس ازاى، لازم نطلع من هنا فى أسرع وقت.
عاصم:
– أنت صح و كمان ممكن يكون الباب اتقفل علشان يجبرنا على الدخول للآخر.
رابح:
– ممكن فعلا ياللا بينا.. مش هنخسر حاجة، كده كده مفيش سكة تانية ادامنا.
اتفق الثلاثة على المضى قدما فى ذلك الممر، و تابعوا سيرهم حتى خمس دقائق تقريبا قبل أن يأتى ذلك المنعطف و كانوا على مشارفه، وجه رابح ضوء الكشاف ليتبينوا ذلك الممر الجديد، لكن الجدران فى تلك اللحظة كادت تتشقق من صراخهم، فمضوا يصرخون و يصرخون حتى أوشكت أحبالهم الصوتية ان تتقطع. و كان ذلك قليلا عما رأوه.. فـ على جانبى الممر، تراصت هياكل عظمية محاطة بجنازير ، فتبين لهم أنهم كانوا بشرا أحياء و قيدوا بتلك الأغلال و ظلت هكذا حتى ماتوا و تحللوا، كان منظرا مرعبا و مخيفا، من كانوا هؤلاء و من وضعهم هنا و من فعل بهم تلك الجريمة الشنعاء، سقطوا من الصدمة يتراجعون بأجسادهم حتى استطاعوا الوقوف من جديد على أقدامهم المرتجفة و فرّوا عائدين موليين الأدبار حتما توقفوا من فرط الركض الذى سلب انفاسهم فأخذوا يلهثون يحاولون التقاط أنفاسهم بصعوبة بالغة حتى قال عاصم:
– ايه اللى احنا شفناه ده؟ ده بجد مش كده؟
رابح و مازال يلهث :
– للاسف.. يا ترى مين اللى عمل فيهم كده.
صرخ شادى لاهثا:
– انتوا بتقولوا ايه و بتفكروا ازاى، احنا ممكن يبقى مصيرنا زى الناس دى.. قصدى المرحومين دول .
رابح: – فعلا لازم نطلع من هنا..
ثم ضرب الجدار بعصبية عدة مرات هاتفا:
– لازم لازم.. بس هنطلع ازاى.. هنطلع ازاى؟
قال عاصم بنبرة حاسمة:
– اسمعوا منى بقا.. انا عارف إن اللى هقوله ده مش هتستوعبوه بس ده الحل الوحيد .. احنا لازم نكمل طريقنا، خلاص اتخضينا و عرفنا اللى فيها، نحاول نلملم شجاعتنا بقا شوية لحد ما نخلص الطريق ده إن شالله ناخده جرى.
صاح به شادى:
– انت اتجننت عايزنا نمشى وسط الجثث. انت ماشفتش منظرهم كان عامل ازاى، و مش بعيد يكون اللى كان بيحصل لنا ده من أرواحهم اللى ساكنة المكان .
رابح :
– يا خبر اسود، تصدق عندك حق ما هو كتاب ايه اللى هيولع لوحده و يرجع سليم تانى، اه و الطيف اللى شوفناه فى الجنينة و…
عاصم بحزم:
– بس انت و هو، والله لو كانت شياطين مش ارواح، مفيش ادامنا نيلة طريق تانى، فنبطل نخوّف و نرعب نفسنا أكتر ما احنا مرعوبين.
عادوا مرة ثانية إلى ذلك الطريق المميت يحملون قلوبهم على أيديهم حتما وصلوه مرة أخرى انتفضوا و توقفوا مكانهم يخشون أن يتقدموا فأومأ لهما عاصم مشجعا، اخذوا نفسا عميقا و مضوا بذلك الطريق يتحاشون النظر إلى تلك الهياكل المتآكلة يسدون أنوفهم عن الرائحة المقززة الصادرة عنهم، و فجأة..
حدث ما لا يحمد عقباه، انقطع النور المنبعث من كشاف رابح فحاول فتحه مرة أخرى لكن هاتفه لا يستحيب لأى أمر كان. زاد ذلك من خوفهم و بدأوا يستشعرون و يتوهمون أن هناك من يلمسهم فحاولوا السيطرة على أنفسهم قدر المستطاع ، فقال رابح بفزع:
– يا جماعة طب ايه مفيش معانا أى موبايل تانى.
فرد عاصم بأسف:
– التابلت بتاعى مابيشتغلش.. اووف.
– و انت يا شادى؟.. شادى .. يا خبر اسود شادى فين..
اضطرب عاصم: ولاه يا شادى.
– أيوا يا عم.. أنا هنا أهو.
صاح به رابح:
– يا عم احنا ناقصين! مابتردش على طول ليه؟
شادى: معلش من الصدمة اتلجمت.
رابح: طب معاك…
و قبل ان يكمل كلمته أُضىء هاتفه ثانية ففرحوا و ركضوا قبل أن يفصل مرة أخرى ، و ها قد وصلوا إلى النهاية و التى لم تكن فى الحسبان..
صاح عاصم :
– يادى الليلة اللى مش معدية، كده خلاص اتحبسنا رسمى باب هنا و باب ورا يعنى مش هنعرف نخرج من هنا.
كان ذلك بابا غريبا مكونا من إطار يحوى عدة مستطيلات مختلفة الأحجام قابلة للحركة.
رابح: اهدا بس يا عاصم، ربنا مش هيسيبنا كده اكيد هيفرجها علينا.. ياا رب احنا مالناش غيرك، افرجها علينا يا رب.
ردد عاصم : يا رب.. يا رب ساعدنا نخرج من هنا.
هتف شادى مضطربا: دلوقتى افتكرتوا ربنا.
رمقه رابح بسخرية قائلا:
-انت ايه اللى انت بتقوله ده. و ده وقته.
انطلق عاصم كمن حظى بطوق نجاة قائلا:
– رابح! الحل فى ايدك.
رابح باستغراب:
– عايزنى أعمل ايه يعنى؟
– يا غبى الحل فى ايدك ، احنا نسينا اتباع الوشم، زى ما كانت الساعة هى الباب لدخولنا هنا اكيد الوشم اللى فى ايدك هو اللى هيخرجنا من هنا.
– أيوا بس أنا مازلت مش فاهم معناه.
عاصم بإصرار: حاول يا رابح فكر.. بص طالما الوشم ده فى ايدك انت يبقى انت اكيد تعرف عنه حاجة، زى ما شادى عرف عن الساعة.
– يا سلام و انت تعرف ايه عن المسدس بقا؟
– و لا أى حاجة بس يمكن لما يقابلنا أفهم، المهم انت فكر و شوف ايه اللى ممكن يربط الحلزون اللى فى ايدك ده بلغز الباب ده و ازاى ممكن نفتحه. فكر بسرعة يا رابح مفيش أدامنا وقت.. هل ممكن ده يكون له علاقة بشغلك كمحاسب مثلا و إن الباب ده مستطيلات…
هنا أشار له رابح و كأن حديثه الأخير ذكره بشىء ما فأردف و هو يحدق بالمستطيلات:
– فهمت.. الحلزون و النسبة الذهبية، ١.٦١٨.
– يعنى ايه؟
– يعنى لازم أرتب المستطيلات دى بحيث تبقى النسب بينهم هى النسبة الذهبية.
شادى: طب ياللا مستنى ايه.
شرع رابح فى ترتيب المستطيلات و مضى من الوقت خمس دقائق فاستعجله عاصم:
– ياللا يا رابح أسرع شوية.
– حاضر بحاول اهو.. اكتب عندك…
كان رابح يملى عليه ارقام ابعاد المستطيلات التقريبة و يقوم بالعملية الحسابية ليحرك المستطيل الصحيح كمن يحل لعبة اللغز و مضى من الوقت خمس دقائق أخرى قبل أن يسمعوا صوت المزلاق يفتح بعدما نجح رابح فى حل شفرته، ففرحوا و هللوا أخيرا سيخرجوا من هذا المكان المرعب لكنهم لم يتكهنوا ما كان ينتظرهم بالخارج،و أنّى لهم ذلك؟!
فُتح الباب و ما إن خطوا بخارجه حتى وجدوا أنفسهم فى موقف لا يحسد عليه، عتمة حالكة، السماء من فوقهم ينيرها القمر بشعاع براق و ضباب يأتى من كل حدب و صوب و ما إن حدقوا بالمكان الذى يقفون به حتى تراءى لهم أنه.. مقابر !
هتف رابح بغيظ: هى ايه الليلة اللى كلها اموات دى؟!
لم تعد سيقاتهم تستطيع حملهم من الخوف و القلق لكنهم تحلّوا ببعض الشجاعة و ربما البلادة مما رأوه، فعلى الأقل فى هذا المكان ترقد الجثث تحت للأرض بسلام ليسوا معلقين على الجدران كما بالداخل، و ما إن تحركوا حتى استرعى انتباه عاصم أمرا مريبا جعله يتخلف عنهم فالتفت إليه شادى قائلا:
– ايه وقفت ليه، خايف دلوقتى ؟
انتبه له عاصم مرتبكًا و قال محاولًا تماسك أعصابه:
– لا أبدا أخاف ازاى ده حتى عيب.
حينذاك قطع الحديث بينهما طيف أبيض يجوب المكان بسرعة هائلة فى حركات غير منتظمة بين كل مقبرة و الأخرى، انكمشوا و تشبثوا ببعضهم البعض حتى تبين لهم كنه ذلك الطيف ليعرفوه على الفور.
غادة!
كانت تلك غادة الأخت المتوفاة لعاصم. ظهرت لهم ترتدى الرداء الابيض ذاته لكنها تحمل هذه المرة مسدسا !!
ابتلعوا ريقهم بصعوبة و دمدم رابح بصوت خافت:
– عاصم! المسدس!
قالت غادة بصوتها العذب المعهود:
– ازيكوا يا ولاد عمى..
لم يرد أحد بل كانوا مرعوبين ينهش الخوف قلوبهم فاستطردت:
– أخويا حبيبى ، وحشتنى أوى يا عاصم.. تعالى. معقولة خايف منى؟
هز رأسه و الدموع بعينيه و اقترب منها قائلا:
– غادة، انتى كمان وحشتينى أوى، انتى مش عارفة حياتى بقت عاملة ازاى من ساعة ما سيبتينى.
– معلش يا حبييى محدش بيختار نصيبه. ده مقدر و مكتوب و زى ما كنت طول عمرى بساعدك ، جيت لك بردو النهاردة علشان أساعدك و أخرجك من المكان ده.
– طب و هتيجى معايا؟
– ماينفعش يا عاصم، خلاص.. و بعدين أنا مرتاحة و مبسوطة هنا.. ياللا بقا علشان مفيش وقت.
مدت يدها له بالمسدس فتساءل:
– هعمل بيه ايه؟
– هتقتل..
– هقتل؟
أجابته بابتسامة ساخرة:
– امم، هتقتل ولاد عمك الحلوين دول، ده الحل الوحيد علشان تخرج من هنا و ترجع حياتك طبيعية تانى، يا إما..
– يا إما إيه؟
-يا إما هتدفن معاهم هنا.
التفت عاصم إلى أبناء عمومته فى ذهول ليرى الخوف و الذعر متجليين بأعينهم يهز له رابح رأسه بألا يفعل بينما كان شادى مصدوما مرعوبا، تعلقت أعينهم بعاصم و هو يأخذ المسدس من يد أخته و قد حزم أمره و اتسعت ابتسامتها.
صوب عاصم المسدس ناحيتهما يوجهه ناحية شادى تارة و ناحية رابح تارة أخرى و فجأة، ضرب لينطلق العيار النارى و يستكين بجسد أحدهم لكنه ليس بشادى و لا رابح.
غادة!!
تفاجأ رابح من عملته و صاح: اا..انت ضربت غادة؟!
فاجأه عاصم:
– دى مش غادة.
و على حين غرة بدأ جسد غادة يتنزف دما أسود متخثرًا فضرب عاصم بها معظم طلقات المسدس حتى سقطت يتحول جسدها إلى مسخ مقزز مرعب، يقول و هو يلفظ انفاسه الأخيرة و قد تغير صوت غادة ليصبح صوتا بشع لا تحتمله الآذان :
– مش هسيبكم..
لم يدعه عاصم يكمل ،فضربه بآخر رصاصة حتى مات نهائيا و فى تلك اللحظة سقط جسد شادى أرضا و كأنه كان قاعا أو رداء لاسقطه عنه صاحبه فصرخ رابح من الصدمة هاتفا :
– شااادى!! ايه اللى بيحصل ده ،الحق شادى يا عاصم.
فاجأه عاصم للمرة التانية: ده مش شادى .
– انت بتقول ايه،و عرفت منين ان المسخ و لا الشيطان ده مش غادة.
– هفهمك كل حاجة بعدين،لازم دلوقتى نلحق شادى .
تبعه رابح دون أن يفهم شيئا كل ما يعرفه هو أنه يجب عليهم إنقاذ شادى،من ماذا و أين هو لا يعرف شيئا.
عاد به عاصم من المكان المشئوم ذاته حتى وجدا شادى مقيدا بجنازير بجانب أحد الهياكل العظمية فاقدا للوعى. ربت عاصم على وجهه ليستفيق لكن دون جدوى، فتساءل رابح بفزع:
– هو..هو جراله حاجة.. يعنى…
– لا لا ، ده من أثر الصدمة بس، لازم نفك الجنزير ده .
وجدوا حجرا عملاقا على بعد قليل منهم فمضوا و حملوه سويا و ضربوا به الجنزير مرارا حتى كسروا حلقاته و حلّوا قيد شادى و من ثم حمله عاصم و مضى بعده فى طريق العودة إلى القصر، يتبادل مع رابح حمل شادى كلما أرهقهم الأمر حتى أضحوا أمام باب الساعة، لكنهم تلك المرة لم يفعلوا شيئا فقد كان الباب مفتوحا مرحبا بهم.
استفاق شادى ليجد نفسه ممدا على أريكة فى الردهة فانتصب جالسا منتفضا كمن استيقظ من كابوس طويل مروع ، فانتابه دوار عظيم، اقترب منه عاصم و رابح فى محاولة لتهدئته،و ناوله رابح كأسا من عصير الليمون، تجرعه دفعة واحدة و كأن جسده كان يتلهف له. ثم أردف شادى باضطراب:
– هو ايه اللى حصل،أنا.. أنا آخر حاجة فاكرها لما النور قطع.. حد هاجمنى و ربطنى بجنزير فى الحيطة، وقتها عرفت ان مصيرى هو مصير الجثث اللى شفناها و ماحستش بنفسى بعدها.
تعجب رابح :
– حد ؟ حد مين؟ و ازاى ماحسناش بيه؟
– انت ماحستش بيه.
كان ذلك صوت عاصم مستنكرا فرد رابح مندهشا:
– يعنى انت كنت عارف؟ انا مش فاهم حاجة ،ماتفهمنى.
ابتسم عاصم قائلا:
– هفهمك يا سيدى.. أول ما النور قطع، فجأة صوت شادى اختفى و قعدنا ننادى عليه و بعد شوية رد و من بعدها و أسلوبه اتغير تماما ، مابقاش خايف زى الأول، ده غير جملة ” دلوقتى بس افتكرتوا ربنا” دى مش شخصية شادى و أول ما خرجنا كانت أول حاجة أكدتلى الموضوع ده هو خيالنا على الأرض بفعل ضوء القمر أنا و أنت كان لينا خيال إنما شادى لأ..
رابح متعجبا:
– آااه، عشان كده تنحت و وقفت ورانا..طب و غادة؟!
– ببساطة غادة كانت هى الدخيل، اللى جدك ذكره فى الوصية، اختى كانت طول عمرها طيبة و بتحب الخير للناس و بتحبكوا فمش هتطلع تقوللى اقتلكوا، وقتها افتكرت كلام جدكوا ” لو قدرتوا تكشفوا حقيقته و تتخلصوا منه ” وقتها عرفت انه اتجسد ف شادى و ظهر فى شكل أختى علشان يوهمنا.
شادى باستغراب:
– طب و ليه عمل كده؟
– لما ربطك، كده كده كنت هتموت،و لما جابلى المسدس، لو عملت اللى قاللى عليه كنت هقتل رابح و يتبقى أنا لوحدى و يا إما أنتحر يا إما أعيش ندمان طول عمرى.
رابح:
– يعنى تقصد إن كل الهياكل دى كانت لناس عاشوا نفس تجربتنا.
– بالظبط كده بس للأسف هما اتخدعوا و ماكشفوش حقيقته.
شادى:
– و ده معناه إن جدنا كمان انخدع قبل كده علشان كده قاللى انه ندم.
عاصم: أفتكر كده.
شادى:
– بس فيه حاجة مش فاهمها،المسخ ده و لا أيا كان اسمه ماكنش عايز فلوس و لا الثروة، طب ليه كان بيعمل كده.
ضحك رابح و قال:
– أنت لسه مافهمتش! الثروة اللى كان عايزها، هى احنا،انه يفرقنا عن بعض و يخلينا قابيل و هابيل من تانى ، علاقتنا هى الكنز اللى جدك قال عليه و اللى المسخ ده كان عايز يحولها لرماد.
صمتوا قليلا يتفكرون فيما حدث لهم تلك الليلة، يتبادلون نظرات ذات مغزى و من ثم اتسعت ابتسامتهم و تعالت ضحكاتهم و نهضوا يحتضنون بعضهم البعض فى عناق جماعى تترابط به أذرعهم بعدما اختفى من عليهم الوشم تاركا ندبة الجرح لتكون علامة تذكرهم بتلك الليلة فلا يراودهم الفراق بعد ذلك، عازمين على تغير شكل علاقتهم بداية من ذلك الوقت بل و تغيير حياتهم بالكامل.

إرسال تعليق

0 تعليقات